جريمة الواسطة


مجتمعنا تحكمه العاطفة، ويحب أفراده فعل الخير ومساعدة الغير انطلاقا من تمسكه بالشرع الإسلامي الحنيف، ومبادئ النخوة والشهامة العربية. ولعل ذلك من أهم أسباب انتشار الواسطة في مجتمعنا. والواسطة هي مساعدة شخص ما في إنجاز أو تسهيل مٌهمة، يقوم بها إنسان مستخدما صلاته أو نفوذه لدى من بيده القرار لتحقيق مصلحة لشخص لا يستطيع أن يحققها بجهوده الذاتية.
والواسطة قد تكون محمودة ومن باب الشفاعة الحسنة وتمثل واجباً إنسانياً وعملاً فاضلاً، ويكون ذلك عن طريق مساعدة صاحب الحق في الوصول إلى حق مشروع ومقرر له قانونا، لكنه لا يملك الوسائل التي تمكنه من الوصل إلى حقه، أو أنه قد حرم منه لسبب لا يعود إليه هو. كما قد تأخذ الواسطة المحمودة شكل مساعدة شخص لإعفائه من ما هو غير واجب عليه قانونا، إلا أنه ألزم به من دون سند قانوني ومن غير وجه حق.
كما أن الواسطة قد تكون عمل مذموماً ومن باب الشفاعة السيئة وشكل من أشكال الفساد الإداري، إذا كانت لمساعدة شخص للحصول على منفعة لا يستحقها قانونا، أو لإعفائه من القيام بما هو مفروض عليه قانونا، مما يترتب عليه مخالفة القانون أو إلحاق الضرر بالآخرين أو الاثنين معا. ولا يخفى على أحد الضرر الذي يلحقه النوع المذموم من الواسطة بالمجتمع، ولعل من أهم الأضرار التي تلحقها الواسطة المذمومة بالمجتمع: فتح باب الرشوة، تفشي الفساد الإداري، إعاقة التطوير والتنمية في المجتمع، وغياب العدالة والمساواة في استفادة الجميع من مقدرات البلاد.
ولأن الواسطة المذمومة لا يقل ضررها بالمجتمع عظيم، ولا يقل عن ضرر الرشوة، فقد جرم المشرع السعودي هذا النوع من الواسطة واعتبرها في حكم الرشوة وذلك في نفس القانون الذي يجرم الرشوة، حيث نصت المادة الرابعة من نظام مكافحة الرشوة (الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 36وتاريخ 29/12/1412هـ) على أن كل موظف عام أخل بواجبات وظيفته بأن قام بعمل أو امتنع عن عمل من أعمال تلك الوظيفة نتيجة للوساطة يعد في حكم المرتشي، ويعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد عن مائة ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين. إذا، فأي موظف عام يعمل بصفة دائمة في أحد أجهزة الدولة، يستجيب للواسطة، ويقوم بسبب تلك الواسطة بعمل، أو يمتنع بسببها عن عمل من الأعمال التي تقتضيها وظيفته وبشكل مخالف للقانون (العبرة بمخالفة القانون)، فإنه يكون مستحقا للعقوبة المنصوص عليها في القانون وهي: إما السجن لمدة أقصاها ثلاث سنوات، أو الغرامة بمبلغ لا يتجاوز مائة ألف ريال، أو بالعقوبتين معا، وذلك بحسب ظروف وملابسات القضية.
أما إذا استجاب الموظف للواسطة، وحقق مصلحة صاحب الحاجة، إلا أنه لم يخالف بذلك القانون بل عمل بما تفرضه عليه مسؤوليات وظيفته، ففي هذه الحالة لا تقع جريمة الاستجابة للواسطة، لانتفاء مخالفة القانون، ولا يكون الموظف بالتالي مستحقا لأي عقوبة.
مما سبق يتبين لنا أن الواسطة ليست محمودة على إطلاقها، وبالتالي فلابد من تغيير نظرة المجتمع للواسطة، عن طريق نشر الوعي بين أفراد المجتمع وتوضيح الفرق بين فعل الخير و"الفزعة" (الواسطة المحمودة) من جهة، والواسطة المذمومة من جهة أخرى، وبيان الضرر الذي قد تلحقه الواسطة المذمومة بالمجتمع؛ ونتمنى على الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أن تضطلع بدورها في هذا المجال عن طريق إقرار مبدأ الوضوح (الشفافية) داخل الدوائر الحكومية، والعمل على تسهيل الإجراءات والتوعية بها، منعا للاستثناءات غير النظامية، بالإضافة إلى تفعيل الحملات التوعوية في وسائل الإعلام المختلفة، والتنسيق مع العلماء وخطباء المساجد والمؤسسات التعليمية ليقوم كل بدوره في التوعية والتحذير من الواسطة المذمومة، ويجب أن لا ننسى دور أهل الحسبة في محاربة الواسطة المذمومة، وهذا باب كبير يتحتم عدم إغفاله لما فيه من نهي عن المنكر.

Comments

Popular posts from this blog

ميراث زوجة الأب

الحماية القانونية للتصاميم

تمييز الابن العامل عن إخوته