الدستور العراقي والشريعة الإسلامية



شهدت عملية صياغة مسودة الدستور العراقي أخذ ورد  بين مختلف الكتل السياسية العراقية فهناك من يطالب بفدرالية في الشمال الكردي، وآخرون يطالبون بفدرالية في الوسط والجنوب ذو الأغلبية الشيعية. وكانت من ضمن محاور النقاش خلال عملية صياغة مسودة الدستور العراقي مسألة ما إذا كانت الشريعة الإسلامية سيتم اعتبارها "المصدر الأساسي" (بلام التعريف) للتشريع أو مجرد "مصدر أساسي " من مصادر التشريع (بدون لام التعريف) والفرق بين الجملتين شاسع وله تأثير كبير على العملية التشريعية في البلاد.
وباستعراض بعض الدساتير العربية نجد أن الشريعة الإسلامية هي "المصدر الأساسي للتشريع" في بعض هذه الدول، فالنظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية مثلاً يشير ضمنياً في المادة الأولى أن إلى أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع بقوله أن "دستور الدولة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم"، كما نص في المادة السابعة منه على أن الحكم في المملكة العربية السعودية يستمد سلطته من المصدرين الأساسيين للتشريع في الإسلام كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أن الدستور المصري في المادة الثانية منه والتي تم تعديلها في مايو سنة 1981م ينص على أن الشريعة الإسلامية هي "المصدر الرئيسي" للتشريع في الجمهورية العربية المصرية. وكذلك هو الحال في دستور دولة قطر.
وفي المقابل نجد دساتير دول أخرى تنص على أن الشريعة هي "مصدر من مصادر التشريع".  فالدستور الكويتي مثلاً نص في المادة الثانية منه على أن دين الدولة هو الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي "مصدر أساسي" (ضمن مصادر أخرى) للتشريع في الكويت، وكذلك هو الحال في دساتير مملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة.
والسؤال الذي يتبادر للذهن هو ما الفرق بين النص على أن تكون الشريعة الإٍسلامية " المصدر الأساسي للتشريع" (بلام التعريف) وبين النص على أن تكون الشريعة الإسلامية "مصدر أساسي للتشريع" أو " مصدر من مصادر التشريع" (بدون لام التعريف).
 قبل توضيح الفرق أود أن ألفت الانتباه إلى نقطة مهمة ألا وهي مسألة عدم جواز مخالفة نص قانوني أدنى لنص قانوني أعلى منه (مبدأ تدرج القوانين). فلا يجوز أن يصدر المجلس التشريعي (البرلمان) قانون يخالف دستور البلاد، ولا يجوز أن يصدر الوزير قرار يخالف القانون الصادر من المجلس التشريعي، ولا يجوز أن يصدر مدير إدارة تعميم يخالف قرار وزاري.
نعود لتوضيح الفرق بالقول أنه إذا نص الدستور على أن الشريعة الإسلامية هي" المصدر الأساسي للتشريع" فهذا يعني أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي الذي يلجأ إليه عند سن جميع القوانين أي أنه لا يجوز الاستعانة بأي مصدر أخر مادام هناك نص في الشريعة الإسلامية يحكم مسألة معينة، كما أنه لا تجوز مخالفة القواعد العامة للشريعة في حال عدم وجود  نص قطعي يحكم مسألة معينة. وهذا يستلزم توافق جميع قوانين الدولة مع قواعد الشريعة الإسلامية وعدم جواز مخالفتها بقرار أو بمادة في أي قانون وإلا عد ذلك القرار أو القانون غير دستوري وبالتالي يجب تغييره. فلا يجوز مثلاً أن تنص مادة من مواد قانون العقوبات على استبدال حد من الحدود الشرعية المنصوص عليها بنص قطعي الدلالة بحكم آخر وضعي وإلا عدت تلك المادة مخالفة للدستور.
 إذا نص الدستور على أن الشريعة الإسلامية هي " مصدر من مصادر التشريع" أو "مصدر أساسي للتشريع " فهذا يعني وجود مصادر أخرى للتشريع غير الشريعة الإسلامية بمعنى أن المشرع (المجلس التشريعي) في تلك الدولة التي تتبنى هذا الاتجاه يمكن له سن القوانين بالاعتماد على أيٍ من مصادر التشريع الأخرى كالعرف مثلاً دون أن يكون مقيداً بنصوص الشريعة الإسلامية، فله أي المشرع الاستعانة بنصوص الشريعة الإسلامية متى رأى ذلك مناسباً وله كذلك الاستعانة بالقوانين الوضعية ولو كانت مخالفة للشريعة الإسلامية متى شاء من دون أن يكون في توجهه هذا مخالفاً للدستور.
 فإذا ما تم اعتماد الشريعة الإسلامية في الدستور العراقي ونص على اعتبارها "المصدر الأساسي" أو "الرئيسي للتشريع" فإن ذلك يقتضي أن تكون جميع القوانين التي ستصدر في العراق لاحقاً (وليس القوانين المطبقة حالياً) متوافقة مع نصوص الشريعة الإسلامية بما في ذلك على سبيل  المثال قانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية.
أما إذا ما تم اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع فالأمر متروك للبرلمان العراقي فبالإمكان سن قوانين متوافقة مع نصوص الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدر من مصادر التشريع وبالإمكان أيضاً سن قوانين تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية من دون أن تكون غير دستورية وذلك لكون الشريعة الإسلامية مجرد مصدر من مصادر التشريع وليست المصدر الأساسي للتشريع وبالتالي تجوز مخالفتها.   

Comments

Popular posts from this blog

ميراث زوجة الأب

الحماية القانونية للتصاميم

تمييز الابن العامل عن إخوته