نشأة منظمة التجارة العالمية (WTO)


خلال الحرب العالمية الثانية، ظهرت فكرة مفادها أن من بين الأسباب التي أدت إلي نشوب الحرب تلك السياسات الاقتصادية الخاطئة التي تبنتها الدول الكبرى في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى. كان من ضمن تلك السياسات على سبيل المثال، نظام الحصص الذي بموجبه كانت بعض الدول تحدد حجم صادراتها ووارداتها لسلع معينة بكمية محددة من دول مسماة، مما أضر باقتصاديات الدول غير المشمولة بالتحديد،كأن تحدد دولة  (أ)  وارداتها من السيارات بمائة ألف سيارة فقط  من دولة (ب) وعدم استيراد أية كمية من أية دولة أخرى. هذه السياسة وسياسات أخرى مشابهة أدت في تلك الفترة إلى الإضرار بمصالح العديد من الدول مما أدى إلى زيادة التوتر بين دول المحور والحلفاء.
لذلك و رغبة من الدول الكبرى في ذلك الوقت- و بالذات الولايات المتحدة- في تفادى حصول كارثة أخرى، فقد دعت تلك الدول إلى إنشاء  منظمة عالمية تقوم بتنظيم السياسات التجارية الدولية ووضعها في المسار السليم الذي يخدم مصالح كل الشعوب ومحاولة التنسيق بين الدول لإزالة القيود المفروضة على التجارة الدولية وتحريرها وفتح الأسواق أمام تدفق السلع بين الدول. نتيجة لذلك فقد عقد مؤتمر برتون وودز  BRETTON WOODS في الولايات المتحدة عام 1944م، والذي خصص لمناقشة القضايا المالية و البنكية- و لكن لم تناقش القضايا التجارية- و قد نتج عن هذا المؤتمر توقيع ميثاقي صندوق النقد الدولي IMF، و البنك الدولي لإعادة الإعمار و التطوير   IBRD . 
وفى عام 1945 دعت الولايات المتحدة العديد من الدول إلى عقد اتفاقية متعددة الأطراف، وذلك من أجل الوصول إلى تخفيض متبادل للرسوم الجمركية. في العام التالي، 1946، وفى اجتماعه الأول، دعي المجلس  الاقتصادي والاجتماعي التابع لهيئة الأمم المتحدة ECOSOC  إلى عقد مؤتمر لمناقشة مسودة لميثاق منظمة تجارية دولية. وبالفعل عقدت عدة اجتماعات لمناقشة ميثاق منظمة التجارة الدولية (ITO) وعقد أول تلك الاجتماعات في لندن، ثم في نيويورك، ثم في جنيف حيث تم التوصل إلى اتفاق من ثلاثة أجزاء، اثنان منها شكلا الاتفاقية العامة للرسوم الجمركية والتجارة أو ما يعرف باسم (الجات- GATT ).
هذه الاتفاقية هي عبارة عن مجموعة من المبادئ العامة التي تهدف إلى تحرير تجارة السلع الدولية وفتح الأسواق أمام تدفقها، والعمل قدر الإمكان على إزالة القيود التي تعيق التجارة الدولية، وحظر جميع الإجراءات التي قد تتخذها بعض الدول لإعاقة تدفق السلع منها أو إليها. أيضاً تهدف هذه الإتفاقية إلى إلزام الدول الموقعة عليها بمعاملة السلع المنتجة داخل الدول الأخرى الموقعة، ومنذ دخولها الأسواق، معاملة مماثلة لتلك الممنوحة للسلع المنتجة محلياً (THE NATIONAL TREATMENT DOCTRINE )، ولا تقل بحال من الأحوال عن تلك الممنوحة لسلعة مشابهة مستوردة من دولة أخرى موقعة  (THE MOST FAVOURED NATION DOCTRINE) .
ولا تهدف هذه الإتفاقية، كما قد يتصور البعض، إلي إلغاء الرسوم الجمركية تماماً وإنما تهدف إلى تخفيض هذه الرسوم إلى المستوى الذي لا يشكل عائقاً لتدفق السلع بين الدول. لذلك نجد أن هناك جدولاً لكل دولة يتضمن الرسوم الجمركية المخفضة في تلك الدولة لسلع معينة، و ليس لكل السلع، وهذه الرسوم يتم التوصل إليها بالاتفاق  بين الدول، كأن يتم الاتفاق بين دولة (أ) و دولة (ب) على أن تكون الرسوم المفروضة على واردات ( أ ) من السيارات من ( ب) 10%، وعلى واردات (ب) من الأجهزة الكهربائية من (أ) 7%. بعد ذلك يتم الإتفاق بين (أ) و (ج) علي أن تكون الرسوم المفروضة علي واردات (أ) من السيارات من (ج) أيضاً 10%، مقابل تخفيض جمركي تمنحه (ج) لـ (أ) علي أحد سلعها. بعد هذه الاتفاقيات الثنائية المبدئية يتم عقد اتفاقيات متعددة الأطراف لمناقشة الرسوم الجمركية المخفضة التي تم التوصل إليها في الاتفاقيات الثنائية، وما إذا كانت بقية الدول ستوافق علي نتيجة تلك الاتفاقيات لتصبح بعد ذلك ملزمة لجميع الدول الأعضاء ولا يجوز تجاوزها  (TARIFF BINDING).
وكان من المفترض أن يتم إدخال هذه الاتفاقية تحت مظلة منظمة التجارة الدولية (ITO)، لكن هذه المنظمة لم يقدر لها أن تري النور وبالتالي ظل العمل باتفاقية الجات مستقلاً عن أية منظمة إلى أن أصبحت جزءاً لا يتجزأ من اتفاقيات منظمة التجارة العالمية  (WTO) والتي بدأت أعمالها في الأول من يناير عام 1995م.
وحيث أن التجارة لم تعد مقصورة علي السلع بل أن تجارة الخدمات أصبحت تشكل عنصراً مهماً من عناصر التجارة الدولية، وبالتالي فإن نطاق المنظمة القانوني إتسع ليشمل تجارة الخدمات، وأيضاً حماية الملكية الفكرية كالعلامات التجارية وحقوق المؤلف.
ويتكون ميثاق المنظمة من أربعة ملاحق:
1- الملحق الأول: يضم الاتفاقية العامة للتجارة والرسوم الجمركية(GATT 94) ، اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة (TRIPs)، والاتفاقية العامة لتجارة الخدمات (GATS)، وهذه الاتفاقيات الثلاث ملزمة لجميع الأعضاء. والجدير بالذكر أن جميع الاتفاقيات في الملحق الأول تشترك في قواعدها وأحكامها العامة، والتي هي في الأساس قواعد وأحكام الجات والتي امتدت لتنظم بقية الاتفاقيات.
2-  الملحق الثاني: وهو عبارة عن اتفاقية لتسوية المنازعات التجارية بين الدول الأعضاء (DISPUTE SETTLEMENT UNDERSTANDING)، وهذه الاتفاقية ملزمة أيضاً لجميع الأعضاء.
3-    الملحق الثالث: وهو عبارة عن آلية لمراجعة السياسات التجارية للمنظمة.
4-    الملحق الرابع: وهو عبارة عن أربعة إتفاقيات، غير ملزمة لجميع الأعضاء، اثنان منها تتعلقا بتجارة السلع الزراعية.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن من ضمن الأهداف الأخرى للمنظمة العمل على فض المنازعات التجارية التي قد تنشأ بين الدول الأعضاء، سواء عن طريق إجراء مفاوضات ثنائية بين الدولتين المتنازعتين، أو عن طريق عرض النزاع علي الجهاز المختص بفض المنازعات.


Comments

Popular posts from this blog

ميراث زوجة الأب

الحماية القانونية للتصاميم

تمييز الابن العامل عن إخوته